Monday, January 14, 2013

حقبة ما بعد عبد الناصر

فرضت السياسات الاقتصادية الليبرالية أخلاقياتها على صعيدي السلطة ومؤسساتها في مصر، فعمَّ الفساد وانتشرت الجريمة وبات الفرد العامل عارياً أمام جشع الرأسمالي الحاكم ومهدداً بالبطالة والفقر… تلك كانت سمات ما بعد حقبة جمال عبد الناصر.
بدأت مصر بعد عبد الناصر مسيرة سياسية واقتصادية واجتماعية مغايرة للمسيرة التي شقتها الثورة، وبلورتها عبر الصراعات الداخلية والخارجية، وعبر المعاناة بالضغوطات والحروب، كما عبر التجربة والخطأ.
توجهت مصر السادات نحو المعسكر الرأسمالي العالمي بقيادته الأميركية، والذي مثّل العدو الأساسي للثورة طيلة عقدين من الزمن. وأدارت مصر ظهرها للاتحاد السوفياتي، بل للمعسكر الاشتراكي بكل تلاوينه، وابتعدت عن كتلة دول عدم الانحياز، التي ساهمت مصر في تأسيسها وقيادتها.
مثّل المعسكر الاشتراكي الظهير الأكبر للثورة، الذي مدّها بالسلاح عندما حجب الغرب السلاح عنها نصرةً للكيان الصهيوني، ومدّها بالغذاء يوم سعت أميركا إلى تجويع مصر عبر منع صادرات القمح إليها، وموّلها لبناء السدّ العالي بعد أن تراجع البنك الدولي، بأمر أميركي، عن تمويل هذا المشروع الحيوي لمصر، وحماها بمظلته العسكرية حين لوّحت إسرائيل بسلاحها النووي في وجه مصر، بعد أن أسقطت خط بارليف وسحقت القوات الإسرائيلية في سيناء. كما ساعد المعسكر الاشتراكي في التشجيع على التصنيع في مصر وإطلاق ثورتها الصناعية، وقدم آلاف الخبراء العسكريين وكميات هائلة من السلاح المتطور، لإعادة تدريب الجيش المصري وتجهيزه بعد هزيمة 1967، ونصب عند القناة سد الصواريخ المضادة للطائرات.
لم يستعمل السادات جيش عبد الناصر لإلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني، بل كما قال، لتحريك «عملية السلام» التي تشرف عليها وتتحكّم بها الولايات المتحدة. وقال السادات إن أميركا تملك كل الأوراق تقريباً في الشرق الأوسط، وعلى مصر السير في ركابها بهدف «حلّ» مشاكلها الاقتصادية والسياسية. واعتقد السادات أن الصدام مع أميركا والكيان الصهيوني التابع لها كان خياراً مصرياً خاطئاً يجب العودة عنه. وتوجه السادات للخروج من الصراع العربي ـ الصهيوني وإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، بحجة تقليص الإنفاق العسكري الذي أرهق الاقتصاد المصري، وبغية زيادة الإنفاق التنموي والاستهلاكي.

السادات يغيّر مصر

بنت مصر شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الغرب والكيان الصهيوني، مستسلمةً لإملاءات «إجماع واشنطن»، أي إلى أفكار الليبرالية الاقتصادية وتحكّم آليات السوق الرأسمالية العالمية. كما تخلت مصر عن سيادتها الفعلية على سيناء، حسب البنود العلنية والملحقات السرية لمعاهدة «كامب ديفيد»، مانحةً قواعد عسكرية للولايات المتحدة في أكثر من منطقة فيها، وفي جزر سعودية في البحر الأحمر، كانت تحت السيادة المصرية، ولحاجات دفاعية ضد العدو الصهيوني. كما أدارت مصر ظهرها لمحيطها العربي وهي الركن الأساسي في نظامه، بل عكست توجيه بنادقها إلى صدور دول المحيط العربي المعادية أو الممانعة للهيمنة الامبريالية ـ الصهيونية، إلى ليبيا والسودان ثم العراق في ما بعد، مشاركةً في حصاره واستباحته.
ولكن مصر، وبالرغم من تحولاتها الكبرى، وخروجها من الصراع العربي ـ الصهيوني، وإنشاء أفضل العلاقات مع الكيان الصهيوني، لم تقلّص إنفاقها العسكري غير المجدي كما زعم السادات، بل إنها زادت إنفاقها العسكري غير المجدي، وموّلت بعضه عبر الديون من الولايات المتحدة، فغرقت في فخ المديونية في ما بعد.
عكست مصر توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، وبدّلت استهدافاتها. فقد أسقط السادات مبدأ ونهج تحالف القوى العاملة، صاحبة السلطة، ولو نظرياً، وهيمنتها على المؤسسات الرسمية والتنظيمات الشعبية. كانت السلطة في مصر أيام عبد الناصر تمثّل تحالف قوى الشعب العامل، وأصبحت أيام السادات تمثل حقيقة وعلناً ما يسمى بـ: «رجال الأعمال»، أي قوى الرأسمالية المحلية وتحالفاتها الخارجية. والرأسمالية المحلية هذه ليست رأسمالية إنتاجية، فهي لا تهتم كثيراً بتنمية قطاعي الصناعة والزراعة بل تعمل مع الخارج، لإضعاف هذه القطاعات. إنها رأس مالية ريعية ووسيطة تجارية بين الشركات متعددة الجنسيات والسوق المحلية. وتمثل الشركات الكبرى متعددة الجنسيات أقوى مراكز النظام الرأسمالي العالمي ونهجه العدواني ضد دول وشعوب العالم الثالث بشكل خاص. والنهج العدواني لهذا النظام يشمل السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية والإعلامية والثقافية والعسكرية عند الضرورة. من هنا، كان التحوّل العميق في توجهات مصر بعد عبد الناصر، إذ تم استخدام القوى الإسلامية لمجابهة الناصرية، بدعم أميركي. هدفت هذه السياسة إلى تفكيك التجربة الناصرية، داخلياً وعربياً وإقليمياً، كما عمل الغرب الاستعماري في السابق على تفكيك تجربة محمد علي باشا بعد هزيمته العسكرية أمام تحالف أوروبي شامل.

بيع مصر… للرأسمالية

حاصرت السياسات الاقتصادية الجديدة قطاعي الصناعة والزراعة وأضعفتهما لمصلحة قطاع الخدمات، وخاصة الخدمات المالية والتجارية والمضاربات العقارية بشكل خاص. وكان لتركيز الثروة في أيدي قلّة من الأثرياء المحليين الجدد، وفتح السوق العقارية على أموال النفط في الخليج، أثر كبير في نمو هذا القطاع، ولو على حساب الرقعة الزراعية المحدودة في مصر.
وتنفيذاً لسياسات «الانفتاح» و«الإصلاح الاقتصادي» و«تحرير الأسواق» رضوخاً لتوجيهات «إجماع واشنطن» (صندوق النقد والبنك الدوليان والخزانة الأميركية)، تمت محاصرة القطاع العام وإضعافه ومن ثم تفكيكه و«نهبه»، عبر سياسات الخصخصة والتشاركية.
تم بيع قسم كبير من القطاع العام خارج آليات السوق الرأسمالية الحرّة. وبعيداً عن أي تقييم حقيقي لمؤسسات هذا القطاع، تم بيع هذه المؤسسات لشركات دولية وسماسرة محليين بأثمان بخسة، تقل في أكثر الأحيان عن الثمن الحقيقي للعقار الذي أنشئت عليه… كما تم بيع شركات مساهمة بأسعار تقل كثيراً عن قيمة أسهمها في السوق المالية.
جرى التراجع عن سياسات الإصلاح الزراعي، وتمت إعادة بعض الأراضي إلى الإقطاع بعد انتزاعها من الفلاحين. كما تم التخلي عن القوانين التي تحدد قيمة إيجار الأرض للفلاحين. وكانت هذه القوانين قد ضاعفت مداخيل الفلاحين حين إقرارها في الخمسينيات، وعُدَّت من أهم إنجازات الثورة على الصعيد الزراعي. وابتعدت السياسات الزراعية عن استهداف تحقيق أعلى نسبة ممكنة من الأمن الغذائي، الذي يحرر الدول من تسلّط وهيمنة الشركات الزراعية الكبرى، وأكثرها أميركي ويعمل بحماية أميركية ولمصلحة الهيمنة الأميركية على دول وشعوب العالم الثالث خاصة. كما أن توسيع هوّة العجز الغذائي يفتح أسواقاً أمام كبار التجار المحليين وكلاء الشركات الأجنبية. وبدل توزيع الأراضي المستصلحة حديثاً على الفلاحين، تم بيعها أو تأجيرها لمؤسسات عربية خليجية، أو لرأسماليين محليين.
تم فتح السوق المالية المصرية أمام تدفقات رؤوس الأموال الخارجية العربية والأجنبية وبكل أشكال هذه الرساميل، التوظيفية منها والعقارية، فهدد تدفق رؤوس الأموال «الساخنة» قصير الأجل، استقرار الأسواق المحلية. وكثيراً ما استعملت هذه الرساميل لزعزعة استقرار الدول ونهب ثرواتها، والتحكّم بأنظمتها وقوانينها. وتعدّ تجربة دول جنوب شرق آسيا في سنة 1997 نموذجاً لمخاطر هذه السياسات التي طبّقت في العديد من دول أميركا اللاتينية. فإغراق أسواق بعض البلدان بأموال رخيصة وقصيرة الأجل، دفع المصارف المحلية إلى تقديم قروض متدنية الفوائد لمؤسسات توظفها لآجال طويلة نسبياً، وخاصة في الصناعة. وطََلُب خروج هذه الأموال الساخنة يؤدي إلى أزمة سيولة وتقليص الإقراض، ويولّد ضغوطاً على المؤسسات المدينة، بما يدفع قيمة أسهمها للانهيار، ويلعب «إجماع واشنطن» وخاصة صندوق النقد الدولي في فرض شروطه على تلك الدول، من حيث «تحرير» الأسواق، وفتحها أمام تملّك الأجانب. ويتم شراء الشركات التي انهارت قيمة أسهمها بالأموال «الساخنة» ذاتها، وعلى حساب المواطنين والاقتصاد المحلي.
ونتيجة السياسات المالية «الجديدة» المعادية للتنمية الحقيقية، يتم تحفيز الاستهلاك، والاستهلاك الظهوري بشكل خاص، عبر الاستدانة من المصارف وعلى حساب الإقراض التوظيفي المنتج، كما يستدعي وضع مصر وحاجاتها الاقتصادية الحقيقية.
وتم فتح أسواق مصر أمام تدفقات السلع والخدمات التي أغرق بعضها السوق المحلية وقتل الصناعات الوليدة التي تحتاج إلى حماية في سنواتها الأولى، وأجهض الثورة الصناعية التي استهدفها النظام الناصري السابق، والكفيلة وحدها بإيجاد فرص العمل الضرورية، وتحقيق التنمية الحقيقية.

شريعة الغاب… والفساد

وبسبب السياسات الاقتصادية هذه، ومراعاةً لمصالح قوى الرأسمالية المحلية والعالمية، تم «تحرير» سوق العمل. وتحرير سوق العمل هذا يعني تحكيم العرض والطلب بمستوى الرواتب والأجور، وتجريد العمال والموظفين من الضمانات والحقوق المكتسبة، وتسهيل التوظيف والطرد من الوظيفة، وإضعاف المؤسسات والنقابات العمالية وإخضاع هذه النقابات للسلطات ولمصالح كبار الرأسماليين. وهذا ما حدث في مصر، وبذلك تم توزيع الناتج المحلي لمصلحة رؤوس الأموال، وعلى حساب الرواتب والأجور. نتج عن ذلك تدني الأجور الحقيقية، وتوسّع نطاق الفقر، وزيادة معدلات البطالة والهجرة، واتّساع متسارع للفروقات الطبقية.
وتفرض  هذه السياسة الاقتصادية الليبيرالية أخلاقياتها على صعيدي السلطة ومؤسساتها وعلى صعيد المجتمع ككل. ولهذه الأيديولوجيا الليبيرالية الجديدة ثقافة تتناقض مع ثقافة وقيم الأنظمة التقدمية، وليس الاشتراكية فقط، في العالم، مثل قيم نظام «الراين» أو ما يسمى بنظام سوق الاقتصاد الاجتماعي، كما يتناقض مع قيم الديانتين المسيحية والإسلامية التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، كما تتناقض أيضاً مع «الجيل الثاني» من شرعة حقوق الإنسان.
لا تعترف هذه الليبرالية الجديدة بقيمة للإنسان خارج مقاييس السوق الاقتصادية الحرة والقادرة، حسب مفاهيمها، على إعطاء كل ذي حق حقه، بعيداً من تدخل الدولة. وقيمة الإنسان تتحدد بدخله المادي، أي بثروته، أو بمستوى أجره. وأجره يتحدد عبر آليات العرض والطلب في السوق الحرة. ومَن لا يجد عملاً ولو بأجر متدنٍ، يعني أن لا حاجة إليه في السوق، وبالتالي في المجتمع، وعلى المجتمع أن ينبذه لا أن يرعاه. وما ظاهرة «المشردين» (Homeless) في أميركا وبعض البلدان الأوروبية، إلا نتيجة هذه الأيديولوجيا التي تبشر بها مؤسسات «إجماع واشنطن» وتتبناها بعض الأنظمة في منطقتنا.
تضع هذه الأخلاقياتُ والمبادئٌ الإنسانَ في شريعة الغاب، تضع الفرد العامل عارياً أمام جشع الرأسمالي الحاكم، تشيّئ الإنسان وتجرّده من إنسانيته، من حقوقه في العيش كإنسان، ويصبح طلب المال وتكديسه هو الهدف الأول في الحياة.
وتعمّم هذه الأيديولوجيا بالتالي الفساد والقسوة والجريمة في المجتمع. وانتشار الفساد في المجتمع، ومنها مصر، له علاقة مباشرة بسيطرة هذا النظام الليبيرالي الجديد، وتعميم قيمه في المجتمع. والمثال الأكثر وضوحاً لهذه الظاهرة يتجسّد باستشراء الفساد في الهند الذي أخذ يكبح معدلات النمو فيها، بعد أن استعصى على العلاج نتيجة تحولات سياساتها الاقتصادية والاجتماعية بإشراف «إجماع واشنطن» وتطبيق سياسات «الإصلاح» الاقتصادي، و«الانفتاح»، و«تحرير» أسواق العمل فيها.

للبحث صلة


حقبة ما بعد عبد الناصر http://pixel.quantserve.com/pixel/p-89EKCgBk8MZdE.gif

No comments:

Post a Comment