Sunday, January 6, 2013

قصة أميركا مع الحريات

خلال فترة السنتين ونيّف التي أمضيتها في إعداد هذا الكتاب سألني كثر عن موضوعه، كانت علامات التعجب تظهر لدى الجميع تقريباً عندما كنت أشرح أنه عن تاريخ أميركا وعلاقته بالحريات داخل المجتمع الأميركي ولا يتطرق إلى سياسة أميركا الخارجية او الشرق أوسطية. كنت دائماً أسأل نفسي لماذا يتعجب الجميع حين يكتب أحدنا عن تاريخ أميركا بينما لا يتعجب أحد من أن قسماً كبيراً من الكتابات عن تاريخنا يعدّه اميركيون أو أوربيون فنتلقف كتبهم ونترجمها إلى العربية ونعلمها في مدارسنا وجامعاتنا؟ لماذا نرى من الطبيعي ان يكون هناك «مستشرقون» يحللون تاريخنا بكل مكوناته ـ السياسية والثقافية والاجتماعية وصولا إلى «العقل العربي» ـ وألا يكون هناك بالمقابل «مستغربون» (إذا صح التعبير) يتجرأون على كتابة تاريخ أميركا ويحللون مكوناته كما يفعل المستشرقون بالنسبة إلى تاريخنا؟

يقول إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» (Orientalism) الذي فجّر هذا الموضوع بين مؤيد ومعارض، إن «الامبريالية السياسية تهيمن على هذا الحقل العلمي بكامله (لدى المستشرقين) وعلى المخيلة والمؤسسات العلمية مما يجعل تفادي (هذه الهيمنة) غير ممكن فكرياً وتاريخيا». ويعزو ذلك إلى ثلاثة أسباب تجعل النقاش الغربي للموضوع مسيساً بامتياز وعاطفياً إلى حد كبير: التاريخ الواسع من العداء للعرب والتعصب ضد الاسلام، والمواجهة القائمة بين العرب وإسرائيل الصهيونية وتأثير ذلك في يهود أميركا، والغياب شبه الكامل لوضع ثقافي بين المستشرقين يجعل من الممكن تبني موقف العرب والإسلام او مناقشته بشكل منطقي وغير عاطفي.

معظم المعترضين على فكرة الاستشراق لدى إدوارد سعيد لا يدحضون أطروحته بالضرورة بل يركزون على عكسها أي على نظرة الشرقيين الى الغرب ويذكرون بشكل خاص نظرة المتطرفين الاسلاميين بما في ذلك تنظيم القاعدة الذي نفذ هجوم 11 ايلول/ سبتمبر 2001 على أميركا. «إن النظرة إلى الغرب في «الاستغراب»، يقول مؤلفَا احد الكتب عن الموضوع، «تمثل أسوأ نواحي نظيرتها الاستشراق التي تجرد الاشخاص المستهدفين من إنسانيتهم (…) فالاستغراب يحقّر (الجهة الأخرى كما الاستشراق) فتعصبه الأعمى يقلب ببساطة فكرة الاستشراق رأساً على عقب».

هذا الموقف الأخير من «المستغربين» لا يشمل القسم الأكبر من المفكرين العرب لأن هؤلاء ليسوا إسلاميين متطرفين بل هم ينتمون إلى المسيحية كما إلى الإسلام، وليسوا عقائديين مناوئين لأميركا والغرب. قسم كبير من هؤلاء ـ وأنا منهم ـ تعلموا في جامعات أميركا وعاشوا وعملوا فيها لمدة طويلة، فهم لا يحملون العبء الثقيل الذي يحمله مستشرقو إدوارد سعيد والتحيز البنيوي في مقارباتهم من جهة، ولا يضمرون اية كراهية عقائدية لأميركا من جهة أخرى. ولذلك فإن ما يدعو للعجب هو ليس ان يكتب هؤلاء عن تاريخ اميركا وهي الدولة الأكثر تأثيراً في العالم، بل ما يدعو للعجب بنظري هو ندرة الذين يتجرأون على الكتابة في هذا الموضوع وهم مؤهلون لذلك اكثر من المستشرقين بكثير.

قد يقول البعض عند قراءة هذا الكتاب انني قسوت على أميركا في روايتي لقصتها مع الحريات ولذا فإنني من المناوئين لها لربما عقائدياً.

لذا أسارع إلى القول بأنني، ككثير من زملائي الذين تعلموا وعاشوا في أميركا في العهد الذهبي للحريات ـ أي في النصف الثاني من القرن العشرين ـ كنت معجبا إلى حد كبير بالحريات التي كان الأميركيون والمقيمون يتمتعون بها في ذلك الحين وبالقوانين الداعمة لها التي سنت خلال تلك المدة، ولذا كان أسفي كبيراً لابتعاد اميركا عن الحريات بقدر ما كان إعجابي بحرياتها سابقا. كان عنوان أول مقال لي بعد ان ضلت اميركا طريقها بعد الهجوم هو: «أميركا ماذا دهاك؟» تبعه مقال بالانكليزية كان فيه عتاب على أميركا لأنها أضاعت مثالا يحتذى رغم قصوره، وتذكرت فيه موقف أمير الشعراء أحمد شوقي من فرنسا التي أكمل علمه فيها وأعجب بثورتها وثقافتها، عندما قمعت ثورة الحرية في سورية سنة 1925. ففي قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

سلام من صبا بردى أرقّ

ودمع لا يُكفكف يا دمشق

يعرب شوقي عن حزنه العميق لما سببه قصف الجيش الفرنسي لدمشق من قتل وخراب ليعاتب بعدها فرنسا بقوله:

دم الثوار تعرفه فرنسا

وتعلم أنه نور وحقّ

بلاد مات فِتيتُها لتحيا

وزالوا دون قومهم ليبقوا

وحُررت الشعوب على قناها

فكيف على قناها تسترق.

هذا الكتاب يروي قصة أميركا مع الحريات وحقوق الإنسان منذ ان تأسست أول مستعمرة إنكليزية على الأرض الأميركية حتى يومنا هذا. تتقسم هذه القصة إلى ستة فصول. الفصل الأول يحكي عن إشكالية كتابة التاريخ الأميركي وكيف كان المؤرخون الأميركيون يمجدون تاريخهم ورجالاتهم حتى وصول المؤرخين الجدد ابتداء من تسعينيات القرن الماضي والذين أعادوا كتابة التاريخ بشكل أكثر واقعية رغم اتهامهم بأنهم يفسدون الجيل الصاعد ويقللون من حبه للوطن. الفصل الثاني يحكي قصة الهنود الحمر، السكان الأصليين للبلاد، وإبادتهم شبه الكاملة خلال الثلاثمئة سنة الأولى بعد وصول المستعمرين الإنكليز. كما يحكي قصة العبيد السود (والبيض) والظلم الكبير الذي طالهم في هذه الحقبة. الفصل الثالث يشرح كيف بدأت أميركا تتصالح مع نفسها منذ أوائل القرن العشرين ـ وكيف نجحت إلى حد كبير في ذلك رغم فورات خوف ـ حصل خلالها كبت غير مبرر للحريات طال مجموعات من المواطنين والمقيمين. نصل في الفصل الرابع من قصتنا إلى العصر الذهبي للحريات، أي العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، الذي تم خلاله التأكيد على الحريات الواسعة التي يؤمنها الدستور الأميركي وسن القوانين التي تضمن حريات الاشخاص بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية والعرقية، وبدأت خلاله سلسلة من الاعتذارات الرسمية من كل الذين عانوا من كبت لحرياتهم بمن فيهم السكان الاصليون والعبيد وغيرهم. نكمل القصة في الفصل الخامس لتبيان كيف ان هذا العصر الذهبي تطاير وتلاشى بعد هجوم 11 ايلول/سبتمبر 2001، فألغت أميركا، في عهد بوش الابن، كل مكتسباتها السابقة وعادت إلى كبت الحريات بشكل واسع يطال جميع المقيمين على أراضيها. في الفصل الأخير يصل الرئيس أوباما إلى سدة الرئاسة بعد وعود كثيرة بالعودة إلى عصر الحريات الذهبي ولكنه يستدير على نفسه ويكمل طريق بوش في كبت الحريات ويكثف اجراءاتها ويضيف إليها.

قصة أميركا مع الحريات هي كقصة سفينة تبحر في عاصفة هوجاء لمدة طويلة، تترنح بين أمواجها، ثم تقترب بعدها من الشاطئ فتعود تدريجياً إلى توازنها رغم بعض الأمواج العاتية التي تضرب هيكلها بين الحين والآخر، إلى ان تصل المرفأ الآمن وتتنعم بهدوء مياهه فتصلح ما خرّبته الرحلة العاصفة وتصبح سفينة تضاهي بجمالها أجمل سفن المرفأ. ولكن سرعان ما تستدير على نفسها فيعيدها قبطانها إلى البحر الهائج من جديد لتعود وتقضم من أطرافها الأمواج. ثم يأتي قبطان آخر واعداً بإعادتها إلى مياه المرفأ الهادئة وإصلاح ما خربته الأمواج وإعادتها إلى ما كانت عليه من جمال وإذ به ينكث بوعوده ويكمل الطريق في الاتجاه نفسه ليدخل إلى عمق العاصفة ولربما إلى نقطة اللاعودة منها.

مقدمة كتاب أميركا والحريات، نظرة تاريخية عن رياض الريس للكتب والنشر.


قصة أميركا مع الحريات http://pixel.quantserve.com/pixel/p-89EKCgBk8MZdE.gif

No comments:

Post a Comment