لم يتبدّل المشهد العربي الرسمي منذ العدوان الاسرائيلي على غزة قبل ثلاثة أعوام، فقد كانت دعوة الحكمة المدجّنة سعودياً تنسجم مع (تنعيج) الموقف الرسمي العربي قطرياً. ما يلفت في تطابق المشهدين السابق واللاحق، أن مقالات (العار) في صحف خليجية معروفة أعيد نشرها في الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية الإسرائيلية على الانترنت.
الفارق بين حربَي غزة الاولى والثانية، أن النصر كان في الأخيرة صافياً، وكان الخزي العربي الرسمي صافياً أيضاً، مع فارق قبيح أن هذا الخزي مسكوت عنه، بل جرى تمجيده بلغة رغائبية من قيادات في المقاومة الفلسطينية طمعاً في أن يستجيب القدر الممنوع لبزوغ حركة ممانعة من صميم الاعتدال العربي!
إنتصرت غزة؟ نعم. وكانت جديرة به لصمودها وقدرتها على كسر معادلة الرعب من طرف واحد. ولكن ثمة ما يراد من غزة بعد انتصارها، في سياق انتزاعها من معسكر الى آخر… فتنتان تحدقان بغزة بعد انتصارها وهما:
1 ـ فتنة الاعتقاد: ثمة في مخططات أجهزة استخبارات الاعتدال العربي ما يجري الاشتغال عليه منذ سنوات، وهو تلويث بيئات المقاومة بكمية كبيرة من (مقالات الفرق والملل والنحل)، لجهة تعطيل المحرّكات الفكرية والاجتماعية والروحية للمقاومة… وفي ضوء ما رهصت به الساحة الفلسطينية مؤخراً وقبل أيام من العدوان الاسرائيلي على غزّة، فإن السلفية بنسختها المسعوّدة تتحول الى مثابة قابلة لتوليد الافكار السجالية، وتكون مضخة مشاغلة عالية الكفاءة. إنه شكل آخر في الانقسام ربما يرتد الى بداية تشكّل الأيديولوجيات السياسية بزخمها العقدي، ولكنّ إعادة إنتاجها اليوم يراد منها وظيفة أخرى. فالتناظر العقدي يخدم مهمة التدجين، والسجال السلفي الاخواني من دون أدنى اعتراض، تمهيد لسبيل المهادنة السياسية المفتوحة وصولاً الى التمييع المطلق للقضية… ثمة من وشى سابقاً بأن تغيير صفة العداوة ودرجتها يتطلب تغييراً عاجلاً في قائمة الأولويات، فإن تخفيض عداوة اسرائيل مدخل حتمي لمرور آمن لثقافة المهادنة.
2 ـ فتنة الإعمار: الرهان على احتواء غزة داخل معسكر الاعتدال مكفول بالمال الخليجي، هو ما سوف يجري الاشتغال عليه، وإن هدنة الخمس عشرة سنة المقترحة من حركة «حماس» ستكون أصعب ما يتخيّله المرء. وسوف تكون لدى عرب الاعتدال فرصة احتواء المقاومة الفلسطينية عن طريق (برنامج إعادة الإعمار)، وما يصاحبه من ظواهر اجتماعية واقتصادية وثقافية وقيمية جديدة مناقضة تماماً لثقافة المقاومة.
في التداعيات كلام طويل، فحين تتبدّل بيئة المقاومة، وتنشأ طبقة من الاثرياء بالمال الخليجي داخل جسد المقاومة، ويغدو التنافس بين الكوادر القيادية على قضم امتيازات من مشاريع الاعمار، ويغدق المال الخليجي السعودي والقطري على وجه الخصوص تحت عنوان إعادة إعمار القطاع، تصبح المقاومة تدريجاً فعلاً مؤجّلاً، وفي أحسن الافتراضات تكون مهمة فئة محدودة وليس مجتمعا… ويخشى أن تتحقق فكرة سارتر في الصراع من أجل الحياة حيث يدفع الاقوياء وببساطة الضعفاء الى الاختفاء، حيث تتسلل قوانين الصراع الطبقي الى جسد المقاومة لتقضي على مثل المساواة، والتضحية، والايثار، والزهد ويصبح التمايز، والجبن، والجشع سمات المرحلة المقبلة.
بالضرورة، إن أفكار المهادنة لا تنمو الا في أوضاع مادية جديدة، وبالتالي فإن تغيير البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع ينجب معه كوكبة مفهومية وقيمية مختلفة، ولأن تلك الأفكار مطلوبة لتنفيذ المهمة الجديدة، إذ تصبح فكرة المقاومة أشد الأفكار إملاقاً حين تتلاشى في خضم أفكار المهادنة بسطوتها المادية… إن أخطر أفكار المهادنة تلك التي تتحول الى معتقد عام أو ثقافة مجتمع، حينئذ فحسب لن يتسنى التعامل معها بوصفها مجرد فكرة، بل تستوجب خطة مواجهة ثقافية على غرار تلك التي وجدنا مضمونها في تقارير (أمة في خطر)…
ثمة في الرأسمال العقدي الاسلامي ما يصلح تثميره في توالد الأفكار المهادنة، ومنه نفسه جرى توليد أفكار في المقاومة. قد يكون ذلك التحوّل انعكاساً، وفي الوقت نفسه مستجيباً، لأوضاع مادية وثقافية جديدة. إنشاء عقيدة ملائمة شيئاً فشيئاً لأوضاع التهدئة عمل شاق ولكنّ المتطوّعين للعمل فيه كثر، سواء في الداخل الفلسطيني أو من وراء الحدود… وما دامت هناك نزعة لا تموضع بمعناها الثوري يعني أن المقاومة دخلت مرحلة خلط الأوراق، حيث لا يصبح التمييز سهلاً بين المقاوم والمهادن، وهو من الشروط الأساسية للمرحلة الانتقالية من معسكر المقاومة الى معسكر الاعتدال.
سوف يتعهد المتموّلون الخليجيون بتوفير كل الدعم لبرامج إعمار القطاع، وبرامج أخرى داعمة… قديمة، ولكن لا تزال صالحة. إنها فكرة أن التحديث بما هو مشروع مادي لتطوير البنى التحتية لا ينفك عن الحداثة بما هي وظيفة لتغيير وتطوير البنى الفوقية الفكرية والقيمية والسياسية…
الدعوات الى تكثيف حضور المال العربي في غزة بريئة في حدود الواقع المأساوي الذي يعيشه سكّان القطاع، ولكن لا يكفي أن تكون غزة مقهورة ومتشظيّة حتى تستأهل رعاية استثنائية تؤول الى انتقالها الى معسكر لطالما أفرط في إهمالها وأسرف في ذبحها في المحافل الدولية. الصراع بين المعتدلين على غزة سوف يشتّد ضراوة وسوف تطفو على سطح الجدل أفكار الضرورة، المنسجمة مع مرحلة التحوّل من معسكر الى آخر.
هناك من يصرّ على تثبيت معادلة خادعة: المقاومة تعني الحصار، والفقر، والدمار، والجوع، والتشريد، فيما الاعتدال يعني الاعمار، الانفتاح، الشبع، الاستقرار، الأمن. وإن ثمة من يريد اليوم الترويج لهذه المعادلة في سياق الدعاية لاستقبال منتج الاعتدال في قلب غزة.
المشكلة أن من يُراد تغييرهم ليسوا أفراد المقاومة فحسب، ولكن المطلوب تغيير مجتمع المقاومة وبيئتها بالكامل، بحيث لا تعود صالحة لتخصيب أنوية مقاومة.
صناعة الكراهية، هو العمل على ما يجدر كرهه في مرحلة لا يعود فيها لمكوّن المقاومة حضور كثيف، لأن ثقافة المهادنة والمساكنة مع الخصم السياسي والحضاري تفرض أن يتخطى شعور الكراهية نفسه بنفسه عبر تدابير جديدة، لا يبقى فيها مبرر للتجابه مع الكيان الاسرائيلي.
ما يصاحب سخاء الاعتدال العربي ينطوي على ردود فعل ذاتية مخيفة وعدائية وخطرة لأنها سوف ترفع النقاب عن نفسها أمام الممانعين عموماً كونها كريهة وفتنوية، إذ لا يلبث ان يترجم السخاء نفسه في هيئة مشاريع تستهدف في ظاهرها الإعمار ورفاه المجتمع الفلسطيني ولكن في أهدافها النائية ما ينطوي على تقويض لأيديولوجية المقاومة، وتفكيك المنظومة الثقافية والروحية والعسكرية والتنظيمية لقوى المقاومة في غزة بل وفي عموم فلسطين المحتلة..
لا يمكن أن تتعايش المقاومة مع الاعتدال، هكذا هو واقع الحال، ولأن الشارع العربي ما زال يختزن قدراً كبيراً من التبجيل لحركات المقاومة، فإنه لن يتقبّل رؤية تحويل المقاومة الى مجرد فعل ماض لم يعد صالحاً في مرحلة الإعمار، أي حين يتولى المعتدلون العرب مهمة إدارتها.
وبصرف النظر عما قيل عن زيارات المعتدلين العرب بدءاً من القيادة القطرية قبل العدوان الاخير على غزة، ووصولاً الى وفد الوزراء العرب الذي زار القطاع قبل وفي نهاية العدوان، فإن السؤال الكبير هو: ما سر شجاعة الاعتدال العربي في كسر الحصار هذه المرة؟ لا، ليس لأن مصر الثورة لم تعد كما كانت سابقاً. فقد اقتفت القيادة المصرية حرفياً خطوات نظام مبارك بدءاً من الادانة ومروراً باستدعاء السفير المصري من تل أبيب، وصولاً الى رعاية مبادرة التهدئة… من يريد التأكد من ذلك فليعد الى الصحف المصرية قبل الثورة.
قيل عن ثمن رعاية الرئيس مرسي لمبادرة التهدئة في التعديل الدستوري، والصمت الأميركي حيال ذلك. وقيل عن خطة اعتدال عربي فرضت نفسها حتى على تصريحات قيادتي حماس والجهاد في الخارج، حيث لأول مرة نسمع عن دعوة مفتوحة وصريحة من قيادات المقاومة جميعاً للأنظمة العربية للقدوم الى غزة وتقديم المال والدعم لها، فيما سمعنا لأول مرة إطراءً غير مسبوق لمدير المخابرات المصرية، وكان ذلك لافتاً في منطقة أنهكها حد اليأس حضور هذا الجهاز في الحياة العامة.
إن تغييراً جذرياً وفظاً في تصورات المقاومة للقضية التي تناضل من أجلها سوف يحكم المستقبل، والمجتمع لا الفرد، وسوف تحدث تغييرات هي موضع ازدراء كثيرين ولكنها قد تؤول الى أن تصبح جزءاً من خطاب المستقبل، المتصالح مع خطاب الاعتدال.
نحن، دون شك، نقرع جرس الخطر بعد انتصار غزة، لأن «فزعة» العرب كما في اللهجة الخليجية التي تعني المناصرة تلتقي مع «فزع» الاسرائيلي من هول مطّلع صواريخ غزّة، ولا بد من معادلة تعوّض خسارة عنصري الردع والرعب لدى الاسرائيلي، ولن يكون سوى عبر فتنتي الاعتقاد والإعمار سبيلٌ الى ذلك.
الفارق بين حربَي غزة الاولى والثانية، أن النصر كان في الأخيرة صافياً، وكان الخزي العربي الرسمي صافياً أيضاً، مع فارق قبيح أن هذا الخزي مسكوت عنه، بل جرى تمجيده بلغة رغائبية من قيادات في المقاومة الفلسطينية طمعاً في أن يستجيب القدر الممنوع لبزوغ حركة ممانعة من صميم الاعتدال العربي!
إنتصرت غزة؟ نعم. وكانت جديرة به لصمودها وقدرتها على كسر معادلة الرعب من طرف واحد. ولكن ثمة ما يراد من غزة بعد انتصارها، في سياق انتزاعها من معسكر الى آخر… فتنتان تحدقان بغزة بعد انتصارها وهما:
1 ـ فتنة الاعتقاد: ثمة في مخططات أجهزة استخبارات الاعتدال العربي ما يجري الاشتغال عليه منذ سنوات، وهو تلويث بيئات المقاومة بكمية كبيرة من (مقالات الفرق والملل والنحل)، لجهة تعطيل المحرّكات الفكرية والاجتماعية والروحية للمقاومة… وفي ضوء ما رهصت به الساحة الفلسطينية مؤخراً وقبل أيام من العدوان الاسرائيلي على غزّة، فإن السلفية بنسختها المسعوّدة تتحول الى مثابة قابلة لتوليد الافكار السجالية، وتكون مضخة مشاغلة عالية الكفاءة. إنه شكل آخر في الانقسام ربما يرتد الى بداية تشكّل الأيديولوجيات السياسية بزخمها العقدي، ولكنّ إعادة إنتاجها اليوم يراد منها وظيفة أخرى. فالتناظر العقدي يخدم مهمة التدجين، والسجال السلفي الاخواني من دون أدنى اعتراض، تمهيد لسبيل المهادنة السياسية المفتوحة وصولاً الى التمييع المطلق للقضية… ثمة من وشى سابقاً بأن تغيير صفة العداوة ودرجتها يتطلب تغييراً عاجلاً في قائمة الأولويات، فإن تخفيض عداوة اسرائيل مدخل حتمي لمرور آمن لثقافة المهادنة.
2 ـ فتنة الإعمار: الرهان على احتواء غزة داخل معسكر الاعتدال مكفول بالمال الخليجي، هو ما سوف يجري الاشتغال عليه، وإن هدنة الخمس عشرة سنة المقترحة من حركة «حماس» ستكون أصعب ما يتخيّله المرء. وسوف تكون لدى عرب الاعتدال فرصة احتواء المقاومة الفلسطينية عن طريق (برنامج إعادة الإعمار)، وما يصاحبه من ظواهر اجتماعية واقتصادية وثقافية وقيمية جديدة مناقضة تماماً لثقافة المقاومة.
في التداعيات كلام طويل، فحين تتبدّل بيئة المقاومة، وتنشأ طبقة من الاثرياء بالمال الخليجي داخل جسد المقاومة، ويغدو التنافس بين الكوادر القيادية على قضم امتيازات من مشاريع الاعمار، ويغدق المال الخليجي السعودي والقطري على وجه الخصوص تحت عنوان إعادة إعمار القطاع، تصبح المقاومة تدريجاً فعلاً مؤجّلاً، وفي أحسن الافتراضات تكون مهمة فئة محدودة وليس مجتمعا… ويخشى أن تتحقق فكرة سارتر في الصراع من أجل الحياة حيث يدفع الاقوياء وببساطة الضعفاء الى الاختفاء، حيث تتسلل قوانين الصراع الطبقي الى جسد المقاومة لتقضي على مثل المساواة، والتضحية، والايثار، والزهد ويصبح التمايز، والجبن، والجشع سمات المرحلة المقبلة.
بالضرورة، إن أفكار المهادنة لا تنمو الا في أوضاع مادية جديدة، وبالتالي فإن تغيير البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع ينجب معه كوكبة مفهومية وقيمية مختلفة، ولأن تلك الأفكار مطلوبة لتنفيذ المهمة الجديدة، إذ تصبح فكرة المقاومة أشد الأفكار إملاقاً حين تتلاشى في خضم أفكار المهادنة بسطوتها المادية… إن أخطر أفكار المهادنة تلك التي تتحول الى معتقد عام أو ثقافة مجتمع، حينئذ فحسب لن يتسنى التعامل معها بوصفها مجرد فكرة، بل تستوجب خطة مواجهة ثقافية على غرار تلك التي وجدنا مضمونها في تقارير (أمة في خطر)…
ثمة في الرأسمال العقدي الاسلامي ما يصلح تثميره في توالد الأفكار المهادنة، ومنه نفسه جرى توليد أفكار في المقاومة. قد يكون ذلك التحوّل انعكاساً، وفي الوقت نفسه مستجيباً، لأوضاع مادية وثقافية جديدة. إنشاء عقيدة ملائمة شيئاً فشيئاً لأوضاع التهدئة عمل شاق ولكنّ المتطوّعين للعمل فيه كثر، سواء في الداخل الفلسطيني أو من وراء الحدود… وما دامت هناك نزعة لا تموضع بمعناها الثوري يعني أن المقاومة دخلت مرحلة خلط الأوراق، حيث لا يصبح التمييز سهلاً بين المقاوم والمهادن، وهو من الشروط الأساسية للمرحلة الانتقالية من معسكر المقاومة الى معسكر الاعتدال.
سوف يتعهد المتموّلون الخليجيون بتوفير كل الدعم لبرامج إعمار القطاع، وبرامج أخرى داعمة… قديمة، ولكن لا تزال صالحة. إنها فكرة أن التحديث بما هو مشروع مادي لتطوير البنى التحتية لا ينفك عن الحداثة بما هي وظيفة لتغيير وتطوير البنى الفوقية الفكرية والقيمية والسياسية…
الدعوات الى تكثيف حضور المال العربي في غزة بريئة في حدود الواقع المأساوي الذي يعيشه سكّان القطاع، ولكن لا يكفي أن تكون غزة مقهورة ومتشظيّة حتى تستأهل رعاية استثنائية تؤول الى انتقالها الى معسكر لطالما أفرط في إهمالها وأسرف في ذبحها في المحافل الدولية. الصراع بين المعتدلين على غزة سوف يشتّد ضراوة وسوف تطفو على سطح الجدل أفكار الضرورة، المنسجمة مع مرحلة التحوّل من معسكر الى آخر.
هناك من يصرّ على تثبيت معادلة خادعة: المقاومة تعني الحصار، والفقر، والدمار، والجوع، والتشريد، فيما الاعتدال يعني الاعمار، الانفتاح، الشبع، الاستقرار، الأمن. وإن ثمة من يريد اليوم الترويج لهذه المعادلة في سياق الدعاية لاستقبال منتج الاعتدال في قلب غزة.
المشكلة أن من يُراد تغييرهم ليسوا أفراد المقاومة فحسب، ولكن المطلوب تغيير مجتمع المقاومة وبيئتها بالكامل، بحيث لا تعود صالحة لتخصيب أنوية مقاومة.
صناعة الكراهية، هو العمل على ما يجدر كرهه في مرحلة لا يعود فيها لمكوّن المقاومة حضور كثيف، لأن ثقافة المهادنة والمساكنة مع الخصم السياسي والحضاري تفرض أن يتخطى شعور الكراهية نفسه بنفسه عبر تدابير جديدة، لا يبقى فيها مبرر للتجابه مع الكيان الاسرائيلي.
ما يصاحب سخاء الاعتدال العربي ينطوي على ردود فعل ذاتية مخيفة وعدائية وخطرة لأنها سوف ترفع النقاب عن نفسها أمام الممانعين عموماً كونها كريهة وفتنوية، إذ لا يلبث ان يترجم السخاء نفسه في هيئة مشاريع تستهدف في ظاهرها الإعمار ورفاه المجتمع الفلسطيني ولكن في أهدافها النائية ما ينطوي على تقويض لأيديولوجية المقاومة، وتفكيك المنظومة الثقافية والروحية والعسكرية والتنظيمية لقوى المقاومة في غزة بل وفي عموم فلسطين المحتلة..
لا يمكن أن تتعايش المقاومة مع الاعتدال، هكذا هو واقع الحال، ولأن الشارع العربي ما زال يختزن قدراً كبيراً من التبجيل لحركات المقاومة، فإنه لن يتقبّل رؤية تحويل المقاومة الى مجرد فعل ماض لم يعد صالحاً في مرحلة الإعمار، أي حين يتولى المعتدلون العرب مهمة إدارتها.
وبصرف النظر عما قيل عن زيارات المعتدلين العرب بدءاً من القيادة القطرية قبل العدوان الاخير على غزة، ووصولاً الى وفد الوزراء العرب الذي زار القطاع قبل وفي نهاية العدوان، فإن السؤال الكبير هو: ما سر شجاعة الاعتدال العربي في كسر الحصار هذه المرة؟ لا، ليس لأن مصر الثورة لم تعد كما كانت سابقاً. فقد اقتفت القيادة المصرية حرفياً خطوات نظام مبارك بدءاً من الادانة ومروراً باستدعاء السفير المصري من تل أبيب، وصولاً الى رعاية مبادرة التهدئة… من يريد التأكد من ذلك فليعد الى الصحف المصرية قبل الثورة.
قيل عن ثمن رعاية الرئيس مرسي لمبادرة التهدئة في التعديل الدستوري، والصمت الأميركي حيال ذلك. وقيل عن خطة اعتدال عربي فرضت نفسها حتى على تصريحات قيادتي حماس والجهاد في الخارج، حيث لأول مرة نسمع عن دعوة مفتوحة وصريحة من قيادات المقاومة جميعاً للأنظمة العربية للقدوم الى غزة وتقديم المال والدعم لها، فيما سمعنا لأول مرة إطراءً غير مسبوق لمدير المخابرات المصرية، وكان ذلك لافتاً في منطقة أنهكها حد اليأس حضور هذا الجهاز في الحياة العامة.
إن تغييراً جذرياً وفظاً في تصورات المقاومة للقضية التي تناضل من أجلها سوف يحكم المستقبل، والمجتمع لا الفرد، وسوف تحدث تغييرات هي موضع ازدراء كثيرين ولكنها قد تؤول الى أن تصبح جزءاً من خطاب المستقبل، المتصالح مع خطاب الاعتدال.
نحن، دون شك، نقرع جرس الخطر بعد انتصار غزة، لأن «فزعة» العرب كما في اللهجة الخليجية التي تعني المناصرة تلتقي مع «فزع» الاسرائيلي من هول مطّلع صواريخ غزّة، ولا بد من معادلة تعوّض خسارة عنصري الردع والرعب لدى الاسرائيلي، ولن يكون سوى عبر فتنتي الاعتقاد والإعمار سبيلٌ الى ذلك.
كاتب سعودي مقيم في لندن
غزة بعد الانتصار: صراع المعتدلين عليها http://pixel.quantserve.com/pixel/p-89EKCgBk8MZdE.gif
No comments:
Post a Comment