القاهرة – أحمد مجدي همّام
لم يتوقع الطالب حديث التخرج، الآتي إلى القاهرة من دمياط، أن تثير روايته الأولى تلك الضجة في الوسط الثقافي القاهري، ولا أن تحظى بالقراءات النقدية والدراسات الجامعية. كان ذلك في عام هو 1990، وكان أحمد زغلول الشيطي هو مؤلف رواية «ورود سامّة لصقر» التي اعتبرها البعض «أول لبِنة في جسد الرواية التسعينية في مصر». الشيطي ارتبك لوهلة تحت الأضواء، وغاب لفترة عن المشهد الثقافي، إلا أنه لم يتوقف أبداً عن الكتابة، فصدرت له – على فترات متباعدة – ثلاث مجموعات قصصية: «شتاء داخلي»، «عرائس من ورق»، «ضوء شفّاف ينتشر بخفة»، إضافة إلى كتاب يوميات من ميدان التحرير عنوانه «مئة خطوة من الثورة». هنا حوار معه:
> في روايتك «ورود سامة لصقر» نابت اللغة عن الدراما في رسم الأجواء الشجنية المضطربة والحزينة، وساهمت الجمل القصيرة في تشظية الوعي والزمان على حد سواء، هل لعبت اللغة دور البطولة في النص؟
- لا أظن أن البطولة كانت حكراً على اللغة، لأن تعامل الرواية مع اللغة كان شديد التعقيد، فقد نبعت من تعقيد اللحظة الإبداعية التي كُتِب العمل فيها، كما اقتضى تكنيك تعدد الأصوات تنويع مستوى اللغة، فهناك فصلان بهما سرد بسيط وخطّي، الفصل المروي على لسان يحيى خلف يشبه السرد الستيني، وفصل ناهد بدر فيه سرد يقارب رواية الأربعينات والخمسينات. في حين أن صوت صقر عبدالواحد يمزج بين تيار الوعي والاستعادات المتكررة لهواجسه النابعة من ماض شديد القلق والتشظي. لكن، لا يمكننا القول إن البطولة مطلقة للغة، فالرواية عُنيت أيضاً بتقديم شخصيات حية وحقيقية، منحوتة من لحم ودم، وهذه الشخصيات هي التي أنتجت لغتها المعقدة التي تتاخم لغة الحلم واللغة الكابوسية.
> لجأت للحوار المدموج بلُحمة السرد باستخدام قلتُ/ قال، بدلاً من الجمل الحوارية التي تبدأ من أول السطر، مازجاً بين الفصحى والعامية، لماذا اخترت أن يكون الحوار على هذا الشكل؟
- فضلت في فصلي صقر وتحية ألا أترك مساحات فارغة في الصفحة، هكذا حتمت علي «الحالة الإبداعية»، وهما شخصيتان مسكونتان بأحاسيس ومشاكل وجودية لا تترك مساحة داخل النفس، في حين تغير الشكل الطباعي وزادت المساحات الفارغة في فصلي يحيى وناهد مثلاً. أعتقد أن تنوع الحوار بين ذاك المدموج بالسرد والآخر الذي يحتل سطراً، كان لأغراض فنية تماماً.
> حرصت على تفتيت الزمن في الرواية، بالمراوحة بين التقدم والتراجع للماضي، لماذا اخترت تقديم أزمنة متشظية في عملك الأول ونأيت عن الزمن الكرونولوجي التصاعدي، بخاصة أنك اخترت أيضاً تفتيت أصوات الحكي بين الرواة؟
- لا أريد إحاطة الكتابة بأمور مثل الإلهام، الأمر كله متعلق بالعلاقة بين الكاتب والورقة، لكن يبدو أن هذه الرواية التي اختمرت عبر 4 سنوات (1986 – 1990)، كتبت نفسها بداخلي على هذا النحو. ربما لم ألجأ للزمن التصاعدي المتصل، لأن سياق تلك اللحظة كان يحمل تحولات اجتماعية وسياسية حادة، تلك التحولات التي كسرت إيقاع الزمن الكرونولوجي عند الإنسان البسيط، هي التي فرضت على النص زمناً متشظياً.
> حظيت «ورود سامّة لصقر» بحفاوة من النقاد، وصنفها البعض كعمل فارق ومفتتح لأعمال الجيل التسعيني في مصر، كيف كان تأثير تلك الحفاوة النقدية والزخم الإعلامي عليك؟
- للأسف كان تأثيراً كارثياً، فقد كنت طالباً حديث التخرج، لا أعي تعقيدات التلقي ولا كيفية التعامل مع الإعلام، ثم بين عشية وضحاها فوجئت بتلك الحفاوة التي قوبل بها العمل. وبين نظرتي للرواية كدفقة ذاتية إبداعية، وكونها عملاً يُطرح في السوق على الجمهور، في هذه المسافة الضيقة، نشأ التأثير المدمر الذي وجدت نفسي فيه بعد التلقي العاصف الذي حظيت به الرواية.
> ولماذا نالت روايتك تلك الحفاوة برأيك؟ ما الذي جعل الكثير من النقاد يصفها بالعمل الفارق؟
- لأنها قدمت شخصيات حقيقية. هناك بحث لأحد طلاب الدراسات العليا يطرح دراسة مقارنة بالعربية والإنكليزية بين «صقر عبدالواحد» و «ستيفان ديدالوس»، بطل جويس في رواية «صورة الفنان في شبابه»، وأنا – بلا غرور أو تبجّح – أرى أن «صقر» يضارع «ستيفان ديدالوس». وفي ظني، صُنفت «ورود سامة لصقر» كعمل مفصلي في السرد المصري، لأن النص لعب ألعاباً شديدة التعقيد في مساحة شديدة الضيق، فيمكنك التعامل مع النص على أنه رواية شخصيات، أو قصة حب، أو عمل بصبغة بوليسية. يمكن أن تقرأ الرواية من أولها أو من آخر فصل، كما أنها قدمتْ بنية محكمة ومختلفة – إلى درجة إشكالية – وقدمتْ شخصيات مرسومة بعناية في الوقت الذي تخلت في الرواية المصرية عن تقديم ذلك واستعاضت بالروايات التي تقدم شخصيات تشبه الكاتب، وكأنها سيرته الشخصية فتهمّش باقي الشخصيات وتحيلها إلى ظلال. هذه الألعاب الخطرة التي لُعِبت داخل نص روائي قصير هي التي منحته تلك الحفاوة النقدية.
> وكيف تفسر عدم حصول مجموعتيك القصصيتين («شتاء داخلي» و «عرائس من ورق») على اهتمام نقدي يوازي ما حصلت عليه روايتك؟
- الحياة الثقافية المصرية تعاني بعض العلل، وتميل عادة إلى النص السهل والمضمون، كما كان مزاج القارئ في تلك الفترة يميل إلى النص الروائي، وعلى رغم ذلك، أظن أن المجموعتين تمت قراءتهما على الأقل بين النخبة المثقفة، ونفدت كلتاهما من المكتبات، ودعني أؤكد هنا أن النص الجيد صالح للقراءة للأبد، وبقاء الأدب مرهون بصموده أمام الزمن.
> بعد أيام من تنحي مبارك صدر كتابك «مئة خطوة من الثورة» في القاهرة وبيروت بالتزامن، لماذا اخترت أن توثق ثورة كانت وما زالت قيد التشكل، عدا عن كونها نُقِلت على الهواء مباشرة عبر الفضائيات؟
- تظل للشهادة الفردية خصوصيتها، فهي تستطيع أن تقدم لمحات مما لم تقدمه الكاميرات ووسائل الإعلام، عندما كنت أكتب يومياتي في الثورة، لم يكن لي أغراض سوى تفادي الذاكرة الخؤون، كنت مذهولاً مما أراه وأعرف أنه لن يتكرر في العمر مرتين، عدا عن كوني «جار الثورة» بالفعل، فبيتي على بعد أمتار من «ميدان التحرير»، في وسط القاهرة.
أنا كغيري من الكتّاب والمثقفين غير المنتمين إلى أحزاب، ولا سبيل لي للمشاركة سوى بكتابة ما كنت أراه، كان ذلك أحد أشكال تفاعلي مع الثورة، ألقيت نفسي في خضم الحدث الذي وُلِد تحت شرفة منزلي، وكتبته، لأكون جزءاً من تلك الفسيفساء الرائعة وأتماهى معها، دونتُ يومياتي في الثورة.
> ألم يكن من الأجدى لو تماهيت مع الثورة داخل المؤسسة الحكومية بدلاً من أن تنسحب من لجنة القصة التابعة للمجلس الأعلى للثقافة؟
- لا أريد أن أقول كلاماً رومانتيكياً مثل «الفنان وحده مؤسسة كاملة»، الحقيقة أني بطبعي لا أستريح في المؤسسات ولا أميل لها… دور المثقف هو الانتماء لقضية لا الانتماء لمؤسسة، بخلاف أن تلك اللجنة كانت من صنع وزير هو أصلاً من مثقفي مصر، لكنه قبل المهمة في ظل حكم عسكري، وهو ما جعلني أتوقع ألا يكون مجلساً حقيقياً.
أحمد زغلول الشيطي: وُلدت «ثورة يناير» تحت شرفة منزلي - الحياة اللندنية - القاهرة http://pixel.quantserve.com/pixel/p-89EKCgBk8MZdE.gif
No comments:
Post a Comment