Saturday, November 17, 2012

زنوج تيارات «مناهضة الاستبداد» وهنودها الحمُر

عدا التيارات السلفية والأصوليات الدينية، تلتقي باقي التيارات الاسلامية والليبرالية والقومية واليسارية العربية على أن الثورات العربية هي ثورات حرية دستورية لدمقرطة السلطة. فالاختلاف في هذا الشأن بين مجمل التيارات الفكرية والسياسية الصاعدة إلى السلطة، على ظهر الثورات العربية، هو اختلاف في تفاصيل «مناهضة الاستبداد» وما تسميه «دولة مدنية» في الدستور. لكنها تعتقد، على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية، أن «مناهضة الاستبداد» نظام دولة نقيضة لدولة الاستبداد نقيض الخير للشر. إنما الاستبداد شكل للحكم، والتعددية الديموقراطية (في مناهضَة الاستبداد) شكل حكم آخر يغيّران في دمقرطة السلطة ولا يغيّران وحدهما دور الدولة ونظامها السياسي. فما نشهده في العالم العربي من صراع بين التيارات الدينية بأجنحتها المختلفة وبين التيارات العلمانية بمنابتها المتعددة، حول الدستور وما يسمى مدنية الدولة والمعتقدات الدينية، هو صراع على السلطة تحت إبط النظام الجيو ـ سياسي الاستراتيجي والنموذج الاقتصادي ـ الاجتماعي السابق وتحت جناحيه لافوقه.

في هذه المقالة نحاول الدلالة في القسم الأول على أن هذا الصراع الدستوري «التنويري» متقادم أربعة قرون ومستمد من «التنوير» الأوروبي والثورة الدستورية الأميركية التي كانت ضحاياها غالبية الشعب من الفلاحين والزنوج والهنود الحمر، بخلاف دستور الثورة الفرنسية الاجتماعية في الفترة الزمنية نفسها، وبخلاف ثورة سيمون بوليفار الوطنية ــ الاجتماعية في أميركا اللاتينية. وفي القسم الثاني الدلالة على أن الصراع على دمقرطة السلطة دون تفكيك نموذج التبعية والقهر الاجتماعي، هو احتراب ثنائيات ثقافوية حادة نخبوية وعصبوية في آن، لا تلبي طموحات الثورة في إسقاط النظام ولا يمكن تجاوزها سوى في إعادة تموضع الحريات الشخصية والمدنية والدينية، في اطار باقي الحقوق الوطنية والاجتماعية والسياسية… لا بمعزل عن هذه الحقوق ولا مقدمة لها.

شارل ــ لويس دو سِيكونْدا المعروف بمونتسكيو (1689 ــ 1755) هو أول من قال بالاستبداد في كتابه «أسباب صعود الرومان وانحطاطهم» (1734). قالها في معرض شكل الحكم في النظام الملكي الذي كان فلاسفة التنوير يصفونه بالطغيان الفردي أو الارستقراطي، مقابل النظام الجمهوري الديموقراطي. فهو يقارن بين ثلاثة أشكال من الاستبداد هي: استبداد حكم الفرد، واستبداد حكم الجماعة الارستقراطية، واستبداد حكم الشعب عبر ممثلين في السلطة أو ما يسميه استبداد الشعب في الديموقراطية. على هذا الأساس كتب مونتسكيو أسس الشرائع القانونية في الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لمواجهة الاستبداد (31 كتاباً أسماها روح القانون، 1748). لكن مونتسكيو لم يقل بالحرية بألف ولام، ولم يقل أيضاً بالمساواة بألف ولام، كما أشاعتهما مدرستا النيوليبرالية والمحافظين الجدد، إنما قال بحرية انتخاب السلطة وحرية المعتقَد الديني وقال بالمساواة في هذه الحريات حصراً دون المساوة الاجتماعية والثقافية وغيرها بل على العكس. وقد كانت روح القوانين والدساتير التي تقتصر على المساواة في حرية انتخاب السلطة والحريات المدنية والمعتقدات الدينية، في القرن الثامن عشر وما زالت اليوم منحازة إلى طموحات ومصالح فئات محدودة على حساب مصالح وطموحات الغالبية الساحقة من فئات الشعب.

هذه المساواة والحد الأدنى من السعادة لا يشملان كل فئات الشعب إلاّ في اختيار ممثلي السلطة ومن دون تكافؤ في الاختيار. فمونتسكيو الذي اشترع «قانون القوانين» في حرية مساواة «المواطنين»، واشترع الفصل بين السلطات للحد من استبداد ديموقراطية «حكم الشعب بالشعب وللشعب»، لم يعمّم هذه «الحرية والمساواة» على المستعمرات الفرنسية بل هادَن العبودية وسُخرة الفلاحين الذين كانوا يشكلون 85% من سكان فرنسا آنذاك. ففي الفصل الخامس من « روح القانون» يقول إن العبودية مناقضة لطبيعة الانسان حيث يولد الناس متساوون، لكنه يقول أيضاً إن الزنوج ليس لديهم معنى الحيز المشترَك (الحيز العام).

المؤمنون بأن دساتير الحريات المدنية وديموقراطية السلطة تؤدي إلى حقوق كل فئات الشعب، يبررون عنصرية مونتسكيو في حديثه عن الأنف الأفطس وخدمات العبيد الجليلة في رفاهية البيض (تدنّي أسعار السكر والقهوة…)، فيقولون أنه كان يحاول تعليم البيض التربية المدنية بلغة مبطّنة ساخرة. لكن واقع الحال أن مدرسة «مناهضة الاستبداد» ودمقرطة السلطة مدرسة معادية للحرية الوطنية والاجتماعية وخصوصاً حرية الفئات العريضة الأكثر اضطهاداً وقهراً. فمونتسكيو دعا إلى التسامح بين السلطة والشعب وإلى التسامح الديني في «البحث عن نظام كوني مؤسس على العقل» في كتابيه (الجاسوس التركي، 1648 ــ والرسائل الفارسية، 1721)، لكنه لم ينشغل بتحرر شعوب المستعمرات الفرنسية ولا بحرية فلاحي فرنسا في زمن كان الفلاحون أغلبية تعاني عبودية الاقطاع والكنيسة. فهو بارون منطقتي البريْد ومونتسكيو (قرب بوردو) انشغل بتجارة النبيذ وأسعاره داعياً مزارعيه إلى المحبة، على نقيض الثورة الفرنسية. ولم يغرّد مونتسكيو وحده خارج السرب «التنويري»، إنما أجاد التعبير عن مدرسة معادية للتحرر العرقي والاجتماعي كما أجاد فولتير وشاتوبريان وغيرهما كثير.

الثورة الدستورية الأميركية التي تنافح النُخبة الثقافية الليبرالية والاسلامية «المتنوّرة» عن مثاليتها الديموقراطية، هي امتداد «للتنوير» الأوروبي في معاداة التحرر العرقي والاجتماعي بشكل سافر. فتوماس جيفرسون (1743 ــ 1826) وهو أكبر أبطال الاستقلال والدستور، يقول « إن المحافظة على العبودية كمن يمسك الذئب من أذنيه، لا نحب هذا الأمر لكن لا يمكننا أن نطلق سراح الذئب». كان يملك في مزرعته حوالي 200 عبد، ولم يترك فرصة للتعبير عن «إحساس عميق بأن السود أدنى من البيض في الروح والجسد». وإلى جانب ذلك نظّم حملة تهجير ما تبقّى من الهنود الحمر إلى غرب نهر الميسيسبي أثناء رئاسته (1801 ــ 1809)، بدعوى صعوبة انخراطهم في في «الحضارة» وبذريعة التخلي لهم عن زراعاتهم «المتخلفة» ومعتقداتهم «المتوحشة». فالآباء المؤسسون استمروا على طريق «الحضارة» البيضاء في ابادة السكان الاصليين والعبودية على هداية الحريات المدنية والمعتقدات الدينية في الدستور الأميركي وقاموا بغزو المكسيك وكوبا وباقي بلدان «الحديقة الخلفية» في أميركا اللاتينية ونهبها. ولولا هذا الغزو الأمبراطوري والعبودية وإبادة السكان الاصليين، لما نشأ حلم المستوطنين البيض في التجارة والمضاربة والعقار… فليست دمقرطة السلطة والحريات المدنية والدينية ما يميّز «الحلم الاميركي»، بل الحريات الليبرالية الإقتصادية المدمّرة للثروات المتراكمة على خيط الزمن والاستئثار بمعظم الثروات الكونية ما يميّزه. وفي مقابل هذه «الثورة الدستورية» التي تحلم بأمجادها نُخبة السلطات العربية الصاعدة على ظهر الثورة، انتهجت الثورة الفرنسية في زمن موازٍ (1789) نهجاً مغايراً برغم جوهرها البورجوازي. ففي 5 أيارــ مايو من العام نفسه أقرّت الجمعية الوطنية «الحرية، الإخاء ــ التضامن، المساواة» ولم يقتصر الشعار على دمقرطة السلطة في حرية الانتخاب والمساواة القانونية والحريات المدنية، إنما تقصّد الدمقرطة الاجتماعية في إلغاء الامتيازات الكنسية والاقطاعية وعلى أساس هذه القاعدة أسقطت النظام السابق وبدأت في التحوّل الديموقراطي فقامت بتحرير الفلاحين (85% من عدد السكان) من عبودية الاقطاع والكنيسة في ملكية الأرض (الفلاحون كانوا يملكون 10% من الأرض)، وفي تحريرهم من تعليم الكنيسة ومن التجنيد في الحروب الاقطاعية.

على أثر الثورة شرعت الجمعية التأسيسة ببيع أراضي الكنيسة والاقطاع باسعار بخسة للفلاحين، وفي بناء جيش وطني للدفاع عن الدولة والأمن القومي، وفي التعليم الرسمي كحق من الحقوق الانسانية، وفي الضريبة على المداخيل والإرث والأملاك لإعادة توزيع الثروة وارساء التضامن الاجتماعي. لم تكن «اللائكية» غير اجراءات عملية لصالح أغلبية الناس على حساب امتيازات الأقلية القليلة. وفي هذا الأطار أقرّت الحريات المدنية والدينية وحقوق الانسان في الدستور والقوانين، ولم تكن «اللائكية» علمانية مشتقة من العلم مقابل الجهل أو معادية للمعتقدات الدينية «والتخلّف»، بل على العكس، هي إلى «جهل» الفلاحين والعمال و«تخلّفهم»، أقرب في ثقافتهم ومعتقداتهم من «علم» النبلاء والنخبة. وحين بدأت البورجوازية باستحواذ ملكية الأرض بالمال، ثار فلاحو منطقة «الفانْديي» العام 1792 ضد امتيازات البورجوازية المالية مخاطبينها بالقول «تريدون أن تأخذوا كل شيء نقول لكم فلنتقاسم ونتشارَك فالديموقراطية هي المشاركَة». وفي اتجاه موازٍ ألغت الجمهورية الأولى العام 1794 العبودية برغم اعتماد فرنسا على تجارة العبيد وتجارة المستعمرات في القهوة والسكر على وجه الخصوص. وضمّت جمعية هذه الجمهورية (مجلس النواب) نائبين عن الزنوج الذين حررتهم الثورة، قبل أن يعيد بونابارت العبودية عام1801 وامتيازات النظام السابق. وفي هذه الفترة الزمنية نفسها ذهب سيمون بوليفار (1783 ــ 1803) في أميركا اللاتينية أبعد من الثورة الفرنسية في تحرير العبيد وفي توزيع الأرض على الفلاحين وفي إشاعة الحريات المدنية والدينية، وفي الحرب لتحرير القارة من المَلَكية والاستعمار معاً (إعلان الاستقلال والدستور العام 1810).

لم يصل أثَر من آثار هذه الثورات الديموقراطية إلى العالم العربي في عصر النهضة، إنما وصلت آثار نابولين بونابارت الذي أجهض التحوّل الديموقراطي الثوري في ثورة مضادة. فمفكرو عصر النهضة العربية أخذوا «مناهضة الاستبداد» عن حركة «التنوير» الأوروبية وخاصة مونتسكيو بالحرف. فعبد الرحمن الكواكبي (1849 ــ 1902)، يستعيد في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، 1902» جملة الأفكار «التنويرية» في «استبداد الجهل على العلم والنفس على العقل» دون أي أثر للديموقراطية الاجتماعية أو التحرر الوطني. والامام محمد عبدو (1849 ــ 1905) كان الأوضح في «مناهضة الاستبداد» تنويراً وفي انحيازه إلى طبقة الملاّك ضد الفلاحين الثائرين. يقول في تقريع بعض الأغنياء الذين دعموا ثورة أحمدعرابي عام 1919 ، بعد أن أرهقهم رياض باشا بالضرائب لسداد ديون الخديوي اسماعيل: «إنما لم يُعهد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء والحكومة يطالبون بمساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه … فهل تغيّرت سنّة الله في خلقه؟ «. لقد سمّى ثورة الفلاحين عام 1919 التي استعادت شعار الثورة المعروفة بثورة همّام «مصر للمصريين والأرض للفلاحين» بثورة الجلابيب احتقاراً. وقال فيها للمحامي البريطاني (بلَنتْ) «الثورة ضلالة والضلالة فتنة وكل فتنة في النار» .

مناهضو استبداد اليوم الصاعدون على ظهر الثورات العربية، جمعوا مآثر «تنوير» الأمس في معادة التحرر من عبودية كبار الملاّك والغزو الأوروبي، إلى جانب أمجاد «الديموقراطية» الأميركية في مدرسة النيوليبراية والمحافظين الجدد، على ما نرى في القسم الثاني.

كاتب وأكاديمي ـ لبنان


زنوج تيارات «مناهضة الاستبداد» وهنودها الحمُر

No comments:

Post a Comment