Saturday, December 1, 2012

بعد نصف ساعة نعود إلى فلسطين

قبل سنوات زرت مخيم اليرموك، الواقع في الأطراف الجنوبية لمدينة دمشق، وقد بدا وقتها كما لو كان ينظر بعين دامعة إلى شقيقه جبل قاسيون، الواقف في أعالي الطرف الشمالي للمدينة، فالشقيقان العربيان السوري والفلسطيني لم يوحدهما تجار الوحدة وبيروقراطيوها، بقدر ما وحدتهما المعاناة. تُرى ماذا كان يقول الجبل للمخيم والمخيم للجبل؟

خاطب يوما مظفر النواب الذي يلقبه العراقيون بأبي عادل دمشق بلسان بغداد قائلا:

أعاتب يا دمشق بفيض دمعي حزينا لم اجد شدو القدامى.

أتيتك والعراق دموع عيني، لماذا تجعلين الدمع شاما

رفاق الأمس هل في الدوح أنتم، أم الوطن الكبير غدا ظلاما

وكان العهد إن دجت الليالي، نهب إلى بنادقنا احتكاما

سلاما يا رفاق الأمس إني محال أن أفرط بالندامى.

كانت هناك وقتها مساحة للوم، أما اليوم فلا مكان للملامة، فالفاجعة موزعة بالعدل والقسطاس بين العرب كافة، من الماء إلى الماء، فماذا ستقول دمشق لبغداد أو غزة لسيدي بوزيد؟

لم تكن تلك زيارتي الأولى لليرموك، ففي كل مرة سافرت خلالها إلى سوريا كنت أيمم وجهي شطر المخيم، ففيه شذى أرض البرتقال الحزين كما سماها غسان كنفاني، وذكريات سنوات خلت، عندما أقمت في حي مساكن الزاهرة الذي يجاوره، ودرست في ثانوية العودة عددا من بناته وأبنائه، ونسجت خيوط صداقات جميلة مع كثيرين: طلبة وصحافيين، وفدائيين وباعة خضار، وأساتذة جامعات، والتقيت مثقفين منهم الفلسطينيان ناجي علوش وأحمد نسيم برقاوي، والعراقي هادي العلوي والسوري جاد كريم الجباعي، بصحبة صديقي الصحافي والكاتب الفلسطيني عبد الأسدي، الذي لا أعرف عن أحواله شيئا، في هذا الدمار الرهيب الذي تتعرض له سوريا الآن .

بعد اللقاء بعدد من الأصدقاء في أرجاء المخيم، أثناء تلك الزيارة، وقفت في ناصية الشارع بحثا عن سيارة أجرة، لم يطل انتظاري فقد ظفرت بمبتغاي سريعا. كان السائق كهلا فلسطينيا اقترب من الشيخوخة، تبادلت معه التحية ثم كان لنا حوار عن هموم الحياة ومصائب العرب، حتى حط بنا رحال الحديث في أرض البرتقال إياها، عند نقطة فاصلة من تاريخها، أي في عام «نكبتها».

قال محدثي إن من بين ما يتذكره عن العام 1948، قدوم ضابط عربي برفقة جنوده إلى الحي الذي كان يقطنه، فطلبوا من ساكنيه مغادرته بسرعة لأن المعركة تقتضي التمترس فيه، واتخاذه نقطة ارتكاز للقضاء على عصابات «الهاغانا» و«شتيرن» الصهيونية المتحصنة قريبا من هناك، وتأكيدهم أن هذا لن يستغرق أكثر من نصف ساعة، قبل عودة السكان إلى بيوتهم آمنين، وهو ما صدقه الجميع، وكيف لا يفعلون والأمر يتعلق بتقديم عون للجيوش العربية التي هبت لإنقاذهم.

ما حصل بعد ذلك معلوم للجميع، فقد حاربت الجيوش العربية بأسلحة فاسدة وحكام مهزومين، وتحولت نصف الساعة تلك إلى ليل طويل ودهر مديد، هو عمر الاحتلال الذي يمطر غزة الآن بقنابله، مثلما أمطر قبل ذلك مدنا وقرى عربية كثيرة أخرى، لا تزال جراحها نازفة إلى اليوم، ولا شيء جديداً في الزمهرير العربي ينبئ بانبلاج الفجر قريبا في أرض البرتقال الحزين، بعد أن ألقت أميركا وأخواتها وبناتها وخدمها وحشمها القبض على العرب متلبسين بفعل الثورة، فقررت إرجاعهم عنوة إلى عصر الحجارة والحديد، ولكن تحت الرماد واللهيب، ومن يبذر الشوك يجني الجراح ويأكله العاصف المشتعل.

أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية


بعد نصف ساعة نعود إلى فلسطين http://pixel.quantserve.com/pixel/p-89EKCgBk8MZdE.gif

No comments:

Post a Comment