Monday, January 21, 2013

الطريق إلى الدولة... «خطوة خطوة»

نصري الصايغ

بعيداً عن الثرثرة والادّعاء، بعيداً عن يأس مصنوع ومتعمّد، بعيداً عن صخب إعلامي وضجيج كلامي، بعيداً عن حياة سياسية رثة، بعيداً عن الدوران في حلقة مفرغة، يعمل لبنانيون بصمت بنّاء على رسم معالم طريق لتغيير متدرج ودؤوب، من دون البحث عن مكافآت وظيفية أو نيابية أو سياسية أو مادية أو…
لا ينتمي هؤلاء، إلى الفضاء اللبناني المكتظ بالأزمات. يرون أن للنضال طرقاً عديدة غير مطروقة، يمكن أن تحدث تغييراً، يشكل حجر الأساس، لبناء دولة ديموقراطية. وسائلهم غير خطابية، غير حزبية، غير تقليدية، وتتمتع بفضيلة النفس الطويل، وفلسفة النمل الدؤوب.
اختار من هؤلاء، أربعة لبنانيين، هم: طلال الحسيني، حنا غريب، شربل نحاس ونزار صاغية.
منذ أيام معدودة، عقد لبنانيان زواجهما عند كاتب عدل. لا تقليد رسمياً مثبتاً احتذاه الزوجان. حب تدرب على علمانية غير مزغولة، كان بحاجة إلى نقاء قانوني. فذلكة قبرص تطوّب لبنان كواحد من منتجي الزعبرة والتزوير. لا يقبل بزواج مدني يعقد فوق أرضه، ويركض ليسجل كل عقد زواج مدني (بكلفة باهظة) خارج حدوده.
قصة طلال الحسيني لم تبدأ البارحة. كنتُ قد تأبَّطت مشروعاً للانتخابات، يطالب بحصة يُمَثَّل فيها اللبنانيون اللاطائفيون. عقد اللقاء في «الحركة الاجتماعية» في بدارو، بحضور نخبة من العلمانيين بلا التباس. طرح طلال الحسيني مشروعه الداعي إلى شطب الإشارة إلى الطائفة، ليس عن تذكرة الهوية، بل في قيود النفوس. طويتُ مشروعي، وتبنيت فوراً مشروعه، لإدراكي أن البداية من هنا: تحرير اللبناني من قيده الطائفي، ليصير مواطنا. أي علماني، بحاجة إلى تطهير، عبر تنقية سجله، مما أضيف إليه عنوةً، من صفات طائفية، وبلا إذن منه. اقتنعت بالمقدمات الدستورية والحجج القانونية والمواثيق الدولية التي تبناها لبنان، وبات لزاماً عليه أن يطبقها.
قيمة هذا المشروع، التحرر الفردي من الأسر الطائفي، إنه ينسف الأساس الوجودي للنظام الطائفي في لبنان، عبر تعريفهم المجتمع اللبناني بأنه مجتمع مكون من طوائف. هذا صحيح، طالما أن كل اللبنانيين، بلا استثناء، هم طائفيون. والنظام لا يتعامل معهم، إلا كطائفيين، ولو كانوا ملحدين أو علمانيين أو لا أدريين… خروج اللبناني من قيد سجل النفوس يجعله خارج النظام الطائفي، وإذا لم ينسحب اللبناني من الطائفية، فهو عضو مساهم في البناء الطائفي، ولو كان علمانيا أو مدنياً أو ملحداً أو لا أدرياً.
أنتجت المبادرة التي حملها ورعاها طلال الحسيني، حملة هدفت إلى حث اللبنانيين اللاطائفيين على التقدم بطلب شطب الإشارة إلى الطائفة. حارت الدولة بهذه الفعلة. ارتبكت. صمتت. استنفرت لجان استشارية لتمنع هذا التحرر، الذي كان قد سبقه حكم قضائي ذائع النقاء حقوقيا، أصدره ثلاثة قضاة، برئاسة يوسف جبران، لشطب الإشارة إلى الطائفة، والذي كان قد حظي به المحامي سامي الشقيفي في نهاية الستينيات.
لزياد بارود، فضيلة إخراج هذا الطلب القانوني من الأسر السياسي. ويُسَجَّل لهذا الوزير، جرأة الاختلاف، وعدم الامتثال.
بإمكان اللبناني أن يكون علمانيا، مدنيا، ان شاء. الطريق مفتوح، ومحمي بالقانون، وهذه هي فلسفة طلال الحسيني: لا بد من العمل بالقانون، لإسقاط لا قانونية المؤسسات التي اختارت أن تكون مجحفة بحق كل من لا يدين سياسياً بالطائفية، وبشكل لا رجعة فيه.
«الحرب» إذا بالقانون، ضد اختزال القوانين التي تختزل الإنسان. وعلى هذا الطريق، كانت موقعة القرار 60 ل.ر. الشهير، الذي كان أصدره المفوض السامي الفرنسي، لسوريا ولبنان. لتنظيم وتحديد صلاحيات المحاكم الشرعية والروحية. وقد ترك القرار فسحة لأصحاب الحق العادي (غير المنتمين إلى الطوائف المعترف بها) بأن يخضعوا للقانون المدني (الذي لم ير النور). من هذه النافذة، استطاع الحسيني، بدأب وجرأة، إعادة الاعتبار إلى وجود هذه الفئة كي تنال حقوقها المدنية.
ولقد فاز في ذلك. منذ أيام عقد أول قران رسمي مدني في لبنان. وينتظر ان تحرج السلطة السياسية، وتتهيج السلطات الدينية، و… كما فعلت عندما أقر مجلس الوزراء قانون الزواج المدني الاختياري، وانقلب عليه الحريري ودفنه في «جارور»، لم يخرج منه حتى الآن.
الطريق إلى التغيير يبدأ من هذه الخطوات الصغيرة، التي تهدد بنية النظام، وانتظامه الفاسد والقمعي والاقصائي. وغريب، أن أحزاباً علمانية سخرت من هذه الخطوة. وهي التي عجزت عن تغيير حرف في بنية النظام، طوال تاريخها المنعوت زوراً بالنضالي.
حنا غريب، من خارج السياق النقابي المدجَّن. جاءها مؤمنا بأن عودة الروح إلى الجسم النقابي ممكـنة. طرد الطائفية من الهيئة التي تولاها، عبر الإصرار على المطلب والمصلحة لرفع الظلم الدائم عن قطاعات الأساتذة والموظفين… لا يدين لطائفة أو زعيم طائفة. فرض على السلطة لغة وفعلا مختلفين.
صدق مع زملائه، فصدّقوه. التزم بهم، فالتزموا بقضاياهم، من دون استئذان قيادات سياسية طائفية، ترسم خطوطاً حمراً لأتباعها.
حرَّر النقابة من الاملاء. النقابات في الزمن السوري والأزمنة الطائفية، يُملى عليها، فترندح ما يقال… نقابات لبنان «الرسمية»، غّثَّة وباهتة، ومضحكة. هزلت إلى درجة انها لا تثير الهزل، بل الاستهزاء.
بلى. يمكن مقارعة النظام، بالحقوق، وفي الشارع، وبالطرق السلمية الحاسمة والتضامن النقابي الفعال. لقد تحرر قسم كبير من النقابيين، من آلة السحق الطائفية. لقد كنس حنا الغريب ورفاقه الطائفية من الحياة النقابية، فبدا النظام عاجزاً عن التأثير، لحرف المسار النقابي الديموقراطي عن مساره.
الندوة التي عقدت في مسرح «دوار الشمس» بدعوة من المفكرة القانونية، طرحت امكانية التغيير من الداخل، ومن الخارج. القادم من عالم الخارج، كان حنا غريب. شربل نحاس كان قادماً من تجربة التغيير من الداخل. لم يستسلم شربل نحاس لفولكلور السياسة اللبنانية، الذي يسهر على إنقاذ الشكل. لا إنجاز في مدرسة النفاق السياسي، داخل الحكومات والإدارات والمؤسسات غير الاهتمام بالشكليات. «الوحدة الوطنية»، «التضامن الوزاري»، «كل شيء على ما يرام»، حتى ولو كان كل ذلك ضد القوانين وضد الدستور.
مترس شربل نحاس خلف النص. إلهه النص: لا موازنة من دون قطع حساب. بهذا، قطع رأس الحكومات السابقة واللاحقة. قطع الحساب يكشف المسروق والمنهوب والمهدور. أرقام الموازنة بريئة من التهمة، لأنها تؤكد على ما يصرف، لا على كيفية الصرف. عذبهم شربل نحاس كثيرا. ما عادوا يطيقونه متكلما على الخلوي (كان وزير الاتصالات) فأخذوها منه، ونفوه إلى وزارة العمل. فكبّدهم ما لا يطيقون. حقق الكثير وأنجز الكثير بالقانون، وفقط بالقانون، إلى أن أسقطه عون بضربة التخلي القاضية. خرج من السلطة، محققاً اختراقات… وهو الآن يعمل لتوأمة النضال، بين التغيير من الداخل وبين التغيير من الخارج.
نزار صاغية ورشة قانونية. يتصدى للمخالف في عقر داره النصي. يأتيه بالحجة من الكتاب. «مفكرته» القانونية حافلة بالمتابعات والنقاشات والنقد والاقتراحات. ينطلق من قواعد الحقوق الإنسانية ومنظومة القيم العليا: الحرية، المسؤولية، الخير العام، المصلحة العامة، منع الظلم والافتئات… الخ.
مسلّم بمنهجية علمية صارمة، وصدقية القراءة والاستنتاج، ولا يوفر مسألة لا يتصدى لها، آخرها، مشروع قانون خاص «بالمخطوفين». قبله، مشروع قانون خاص بالرقابة على السينما والمسرح.
لا مساومة. الكتاب فوق الجميع. وما لم يرد في الكتاب يضاف، وما جاء فيه معيوباً، قابل للإصلاح.
ان التغيير ممكن إذاً، من خارج ميادين الصراخ السياسية. المواقف وحدها لا تسقط قطرة ماء في هذه الصحراء. المواقف ليست إلا براءة ذمة لصاحبها. قال واكتفى. مع هؤلاء الأربعة، الفعل هو الأول. «الفعل قبل شجاعة الشجعان».
لا نبخس عاملين كثراً في صياغة مستقبل لبنان، عبر أفعال عينية، غير مسبوقة. لا نغبط حق الذين تجرأوا على السلف والعادات، فاجتهدوا واعطوا المرأة حقها… من هؤلاء، القاضي جو قزي، الذي ما بدل تبديلا.
إذا كان الأمل مفقوداً من الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة، فإن كل الأمل معقود على رواد، يؤمنون ان النمل، معلم الانتصارات والإنجازات. بمثل هذه الخطوات نستعيد الأمل بلبنان. إنما، هل يبقى هؤلاء الرواد، يعملون فرادى؟ إنما، هل يظل هؤلاء، في فضاء شعبي مشغول بحمولة سياسية متهالكة وعفنة؟ إنما، هل هناك حاضن اجتماعي، طلابي، ثقافي، مدني لهؤلاء، كي تتحول الفكرة إلى كتلة من القوة؟
الطريق، لا يصل وحده إلى نهايته. لا بد ممن يحمل عبء السير فيه إلى منتهاه.



الطريق إلى الدولة... «خطوة خطوة» http://www.assafir.com/Images/btn_Send.gif

No comments:

Post a Comment