Monday, January 21, 2013

في خرافة «التحوُّل الديموقراطي» الليبرالي

تقلد السلطة الجديدة في مصر، نظام حسني مبارك في التبعية للرأسمال المعولم، وفي تعزيز نفوذ كبار التجار ورجال الأعمال على القرار السياسي، ولا تشذ المعارضة الليبرالية المصرية عن هذا التقليد. ديكتاتورية السوق والرأسمال الكبير لا يقودان «الثورة» إلى بناء دولة ديموقراطية.

إعلان الرئيس محمد مرسي عن نهاية «المرحلة الانتقالية» أمام مجلس الشورى، يكشف قراءة القوى السياسية الصاعدة إلى السلطة على ظهر الثورات العربية، لما تسميه «التحوّل الديموقراطي». أفصح الرئيس عن وجهة الحكم بعد «المرحلة الانتقالية» في تجديد نموذج نظام مبارك وزيادة الشيء من الشيء نفسه:
أ ــ التبعية للرأسمال المعولم في حرية التجارة والسوق والاستثمار الاجنبي المباشِر.
ب ــ تعزيز نفوذ كبار التجار ورجال الاعمال على الاقتصاد الاجتماعي والقرار السياسي.
ج ــ تمديد الفراغ الجيوسياسي والامن القومي عبر اندماج مصر باستراتيجيات ومصالح الدول الغربية بدل التوجه نحو اعادة بناء الحقل الاقليمي.
في هذا السياق، دعا الرئيس مرسي المنتجين والفئات الشعبية «للعودة إلى العمل» من دون أي تغيير في منظومة القهر والتهميش التي ثاروا من أجل تغييرها. ووعد بجنّة الاستثمار الأجنبي المباشر في الأرض والعقار «لتنشيط عجلة الاقتصاد» كما كان يعد مبارك سواء بسواء. (مشروع اقليم قناة السويس والعريش، مناطق تجارة حرة في بور سعيد والاسماعيلية والسويس، استصلاح الأراضي المعدّة لاستثمار الرأسمال الكبير وتصدير الخضار، الكهرباء وأنابيب الغاز القطري ــ العربي…) وهي مشاريع كانت بمعظمها على جدول هيئة الاستثمار والبنك الدولي واتفاقات الشراكة الاميركية والاوروبية قبل سقوط مبارك، أو انها استكمال لمشاريع سابقة نفذها حكم مبارك، فآلت إلى خراب مصر وعزلها عن المنطقة. (128 مشروعاً منها 14 مشروعاً استراتيجياً لم يتجرأ مبارك الخوض فيها لعلاقتها بالامن القومي مثل الاستثمار الأجنبي في قناة السويس أو منطقة تجارة حرة مع غزة إما في رفح وإما في العريش).
المعارضة الليبرالية المصرية الطامحة الى السلطة، كانت قد أدرجت هي الأخرى المشروعات نفسها في برامجها الرئاسية «للتحوّل الديموقراطي»، وهي لا ترى ضيراً في نموذج هذا التحوّل سوى أمرين:
1 ـ انه «يحتاج إلى استقرار سياسي داخلي» بمشاركتها في السلطة واطلاق الحريات المدنية، فـ«لا استثمار بلا استقرار سياسي» على ما تقول وصايا البنك الدولي ومؤسسات حرية التجارة والسوق العالمية.
2ــ ان الفريق المحيط بالرئيس تنقصه الخبرَة الكافية «لحماية حقوق الدولة المصرية» في التفاوض مع الدول ومؤسسات الاستثمار. لكنه في مجمل الأحوال يؤمن بخرافة معجزات هذا النموذج في «التحوّل الديموقراطي» إذا أُضيفت الحريات المدنية في الدستور والسلطة السياسية، إلى حرية السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشِر.
إنما ليس نموذج هذا «التحوّل» من مبادئ الشريعة الاسلامية و«أدلّتها الكليّة» (المادة 219 في الدستور المصري الجديد) التي تحترب بشأنها التيارات الدينية والمدنية، ولا هو من مبادئ «العلمانية» في الديموقراطيات التاريخية، بل هو من مبادئ ديموقراطية المحافظين الجدد النيوليبرالية المحدَثَة التي تشبّعت بها معظم النُخب السياسية والثقافية العربية على يد تلامذة خبراء مؤسسات المال والأعمال ومدارس علم الاجتماع «الحديث». فديموقراطية المحافظين الجدد تعتبر دون غيرها من الديموقراطيات أن «التحوّل الديموقراطي» يقتصر على دمقرطة السلطة بالانتخابات والاصلاحات الدستورية، من دون دمقرطة النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي لصالح حماية القطاعات الصغيرة من منافسة الرأسمال الكبير وضمان حقوق العاملين «الفئوية»، أو من دون تغيير الجغرافيا السياسية لحماية الأمن القومي والمصالح القومية الجامعة لطموحات ومصالح مجمل الفئات الاجتماعية.
هذه النزعة التخريبية للاستقرار الاجتماعي والمصالح القومية العليا، كانت موجودة على الدوام في تاريخ الديموقراطيات، لا سيما في بريطانيا وأميركا أثناء توسّع مصالحها الاستعمارية والامبراطورية. أحد كبار شيوخها الملقّب بشمشون بريطانيا إلى جانب آدم سميث هو ادمون بورك (1729 ــ 1797) الذي حارب تطلعات الثورة الفرنسية للديموقراطية الاجتماعية بشدّة، وسخّر الادارة البريطانية لدعم استيطان أميركا الشمالية ونهب ثروات «الهنود الحمر»، هو أول من أسّس قيَم «التحوّل الديموقراطي» في حرية السوق والتجارة والاستثمار (نادي الأدب، العام 1760) وأنجب تلامذة عدّة في الادارات الحاكمة. أحد هؤلاء التلامذة اللاحقين هو فريدريك هايك (1899 ــ 1992) الذي حارب «الكينزية» في أميركا أثناء أزمة الثلاثينيات الكبرى واعتبر تدخّل الدولة في نَظْمِ الاقتصاد الوطني والاستقرار الاجتماعي، « مناقضاً للديموقراطية ولا يختلف عن التوتاليتارية الشيوعية والفاشية إلاّ في الدرجة، لا في طبيعة الاستبداد الشمولي». (دستور الحرية، (1960). في ما بعد تبنّته مارغريت تاتشر وقلّدت تلاميذه المناصب في المؤسسات الدولية، بينما أوكَلَ ريغان إلى أحدهم (ميلتون فريدمان) مهمة الدمقرطة في قصر بينوشيه إثر انقلاب المخابرات الاميريكية على «توتاليتارية» ألليندي في تشيلي. لكن هذه النزعة التخريبية للاستقرار الاجتماعي والامن القومي ظلّت عارضة في تاريخ الديموقراطيات، إلاّ في المستوطنات البيضاء (أميركا الشمالية وجمهوريات أفريقيا البيضاء). فالتجارب الديموقراطية التي نجحت في تأمين الاستقرار الاجتماعي في أوروبا الغربية والشمالية من دون الاعتماد الكلي على التوسّع الامبراطوري، تأسست على أسس تدخّل الدولة في إعاقة حرية الرأسمال الكبير لحماية الاستقرار الاجتماعي. وفي كل هذه التجارب التاريخية لم يخطر على بال أي من الديموقراطيين منذ عصر الأنوار حتى عقود قليلة خلت، الحديث عن الديموقراطية من دون دور الدولة الناظم للتضامن الاجتماعي على حساب حرية الرأسمال الكبير لحماية الاستقرار والوحدة الوطنية. بل إن إميل دوركهايم أسس علم الاجتماع على أساس التضامن وتكافؤ الفرص في توافق المصالح الاجتماعية (في تقسيم العمل الاجتماعي، 1893).
أقصى عتاة الليبرالية السياسية في ذاك الزمان من أمثال جون لوك (رسالة في التسامح 1689) لم يذهبوا إلى ما ذهبت اليه الليبرالية الاقتصادية و«نيوليبرالية» المحافظين الجدد المحدَثَة، في إشاعة حرية الرأسمال في الغابة. بل قارعوا استبداد السلطة في إطار التلاحم الاجتماعي ودور الدولة الناظِم للتناقض بين الفئات الاجتماعية، من أجل الحقوق الطبيعية (الحرية الشخصية والمدنية وحرية الرأي والتنظيم والمعتقَد) لا العكس. ومهما يكن من أمر هذه الأفكار وغيرها، دلّت التجارب الديموقراطية أن الدولة أعاقت حرية الرأسمال الكبير في داخل مجتمعاتها من أجل حماية التلاحم القومي الجمعي وضمان الاستقرار الاجتماعي. فقد حرمته حتى الأمس القريب من الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية الحيوية ومن القطاعات الخدمية (البريد والنقل والتعليم والصحة والاتصالات…)، وأرهقته بالقيود والضرائب لتعزيز محافظة القطاعات الصغيرة على البقاء امام المنافسة غير المتكافئة. وفي هذا السبيل عوّضت الرأسمال الكبير عن اعاقة حريته الداخلية، في حماية توسّعه خارج مجتمعاتها، بالحرب والنفوذ والسياسة الخارجية والايديولوجيا. ولولا هذين الأمرين معاً، فضلاً عن كفاح وتضحيات الفئات الاجتماعية المتضررة من الرأسمال الكبير، لبقيت الأفكار الديموقراطية حبراً على ورق.
النيوليبرالية قلبت أسس الديموقراطية رأساً على عقب، في خدمة حرية مصالح المال وأعمال الشركات متعددة الجنسية والبورصات والبنوك والطاقة والسلاح… ولم تنجح بإشاعة ثقافة سياسية شمولية الأسس والتفرعات نتيجة قيمتها الفكرية الانسانية، بل نتيجة دفعها بقوة الأجهزة وإدارات الدول والمؤسسات الدولية… وأيضاً نتيجة توزيع الفتات على قطاعات واسعة من النُخب الثقافية لخدمتها في مراكز الابحاث والإعلام والمحاماة والنخبة الوسيطة العاملة في «الشأن العام». فالنيوليبرالية هي على صعيد الفكر الانساني تبسيط سطحي في مقاربة الطبيعة البشرية إذ تعمل على تفكيك جماعات الجنس البشري المركّبة (اجتماعية، عرقية، قومية، أممية…) إلى عناصرها الغريزية البدائية الفردية. ثم تتصوّر شيئاً خرافياً فوق تناقضات البشر تسميه «دولة الشأن العام» أو «دولة المواطَنَة»، في إقامة علاقات مباشِرَة مع أفراد «مواطنين» تتخيلهم جزافاً مجرّد مستهلكين تتيح لهم «الدولة» التنافس بين الرساميل» لتلبية احتياجاتهم من أفضل السلع بأرخص الاسعار». لكن هذا التخريف يُلغي دور الدولة الناظِم لتناقضات الجماعات البشرية، ولا يُلغي التناقضات الاجتماعية نفسها. ولا تلبث هذه التناقضات الطبيعية أن تنفجر، إثر إلغاء دور الدولة الناظِم، احتراباً عصبياً بين الجماعات العرقية والاثنية والدينية، أو تفتيتاً وتقسيماً للجغرافيا السياسية والبلدان، على ما شهدنا في بلدان العالم كله بعد عولمة النيوليبرالية.
هي أيضاً تبسيط ساذج لنشاطات بني الانسان وحاجاته، في اعتمادها على عاملين بدائيين هما زيادة الكم والحجم من دون غيرهما. تتخيّل أن زيادة الكم والحجم في الاستثمار بالمشاريع الكبرى يكفي لسد حاجات عدد من الناس الأفراد. لكن العقل البشري ارتقى حتى دقت ساعة النيوليبرالية، في هندسة عوامل أخرى أرقى من الكم والحجم هي عوامل مَن يقوم بهذا النشاط، كيف يقوم به وما هي تداعيات نشاطه السياسية والثقافية والبيئية، أين يقوم به وما هو أثره الديموغرافي والاستراتيجي، لماذا وهل يلبي احتياجات متعددة الاختلاف والتباين في النوع أم هو نمطي آحادي كأن المنتَج سلعة علف لاستلاك البهائم… وفوق «الدكّة» يتعمّد خدَم حرية الرأسمال الكبير وتلاميذهم بتزوير وقائع خرافة زيادة الكم والحجم كأشاعة ضرورة تشجيع الرأسمال الأجنبي المباشِر «لزيادة فرص العمل». إنما في حقيقة الأمر يتم الغاء خمسة آلاف فرصة عمل مقابل كل فرصة واحدة في القطاعات الكبيرة (سيرج بوغام، في إعادة تفكير مفهوم التضامن، باريس، 2007). ومن بين الاشاعات الخرافية الأكثر تداولاً هي ضرورة زيادة استحواذ الرأسمال الكبير على الاراضي الزراعية والمياه وتجارة الغذاء في السوق الدولية… «من أجل محاربة الفقر والجوع». لكن يتبيّن أن القطاعات الصغيرة والعائلية هي التي حمت نصف سكان العالم من الجوع، لا تجارة الغذاء في البورصات والسوق الدولية. (تقرير الأمم المتحدة، المشرعات الصغيرة، 2012). وما لم تدرجه الأمم المتحدة في تقريرها هو تشريد المشروعات الكبيرة لثلث سكان العالم من أراضيهم إلى أحزمة البؤس والجوع.
ما يجري في مصر وتونس (ناهيك عن ليبيا واليمن) ليس «تحوّلاً نحو الديموقراطية»، بل هو محاولة تجديد النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي والفراغ الجيوسياسي بأدوات جديدة. فالثورات في هذه البلدان سعت الى النجاة بنفسها من وقع سقوط النظام الخرِب على رؤوسها، فإذا بالقوى السياسية ونخبتها الثقافية الصاعدة الى السلطة على ظهر الثورة تنحو نحو تركيب مداميك جديدة في جدران النظام المتساقطة. ومهما تقول هذه القوى والنخب بشأن احترابها حول ما تسميه «دولة مدنية أم دولة دينية»، فهي تحترب في ما بينها على السلطة والنفوذ وعلى تقاسم فتات إدارة النظام المتجدد نفسه ونموذج الخراب عينه. فالدولة لا تتدمقرط باصلاح هندام السلطة في صناديق الاقتراع، على ما يقول هابرماس، انما تتدمقرط في تفكيك نموذجها اللليبرالي (جورجان هبرماس، إشكالات الشرعية في الرأسمالية المتطورة، 1973). فالليبرالية الاقتصادية والنيوليبرالية لا تساعد على دمقرطة الدولة، بل تنزع من الدولة الدور الناظِم للتلاحم القومي الجمعي والاستقرار الاجتماعي لصالح ديكتاتورية السوق وحرية الرأسمال الكبير. (فرنسوا ــ بول بينوا، الديموقراطية الليبرالية، 1978). وعلى خلاف ما تعتقد القوى الليبرالية، ليست ديكتاتورية السوق والرأسمال الكبير قابلة للدمقرطة بالتفاوض مع المؤسسات الدولية أو بأوهام «الشفافية ومحاربة الفساد». انما الدمقرطة هي في تغيير النموذج المؤسّس للخراب والفساد.
ليس عاقلاً مَن يشدّ الرحيل صوب الغرب على هدى خرافة «التحوّل الديموقراطي» الليبرالي، متوقعاً ادراك صلاة الفجر قبل شروق الشمس من مشرقها.
قاسم عز الدين
كاتب وباحث ـ لبنان


في خرافة «التحوُّل الديموقراطي» الليبرالي http://pixel.quantserve.com/pixel/p-89EKCgBk8MZdE.gif

No comments:

Post a Comment